الديموغرافيا التاريخية

 تمهيد:

من الحقائق الهامة في العلوم الإنسانية والاجتماعية أن السكان يعدون المحور الرئيسي الذي تنبع منه كثير من الدراسات في شتى المجالات وعلى اختلاف التخصصات العلمية المعرفية، ومن أهم العلوم التي تهتم بدراسة السكان نجد الديموغرافيا التي ظهرت كعلم مستقل في أوروبا الغربية أواخر القرن التاسع عشر، كان الهدف من وراءها وصف وتتبع مراحل التحولات الديموغرافية التي عرفها النمو السكاني والعوامل المؤثرة عليه في منطقة معينة، بمعنى أنها تستمد المعطيات الخاصة بالسكان من الماضي، من أجل معرفة السياق التاريخي التي نمت فيه الأحداث الديموغرافية. ثم تطورت هذه الأخيرة إلى دراسة تاريخ المجتمعات قبل الفترة الإحصائية، مما نجم عنها ولادة الديموغرافيا التاريخية كعلم يهتم بدراسة الخصائص الديموغرافية للسكان في الماضي في إطار ما يسمى "بالتاريخ الجديد" بعد الحرب العالمية الثانية، وهذه الدراسة تعتمد على مصادر ووثائق يتم تحليل محتوياتها وفق تقنيات ومناهج مختلفة تماما عن مناهج الديموغرافيا.


  • إذن؛ ما هي الديموغرافيا؟
  • وما هي الديموغرافيا التاريخية؟
  • وكيف نشأت وتطورت الديموغرافية التاريخية؟
  • ما هي المصادر والتقنيات والمناهج التي تعتمد عليها؟
  • وأين تكمن أهمية الديموغرافيا التاريخية؟

هذه لأسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذه الوقة البحثية.

مفهوم الديموغرافيا:

ظهر هذا المفهوم في غرب أوربا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ومصطلح الديموغرافيا مكون من كلمتين يونانيتين هما Démos ومعناها السكان و Graphos معناها الوصف؛ فالديموغرافيا اذن تهتم بدراسة ووصف بنية المجتمع البشري من حيث عددهم وبنيتهم أي توزيعهم حسب الجنس والعمر والزواج و الخصوبة والحالة العائلية والنشاط المهني والهجرة والطلاق والنمو السكاني والتكوين السكاني والأمية والتعليم... إلى غير ذلك من المتغيرات. انطلاقا من هذه المتغيرات يستخرج ذوي الاختصاص معطيات كمية وأرقام مطلقة يمثلونها على شكل جداول أو مبيانات بالإضافة إلى التمثيل البياني (هرم الأعمار) وتقديرات تسمح لهم بالتنبؤ بمستقبل سكان منطقة معينة، وهو بهذا يتطابق مع التعريف الذي قدمه قاموس الديموغرافيا المتعدد اللغات للأمم المتحدة والذي اعتبر "الديموغرافيا علما موضوعه دراسة الساكنة البشرية، في حجمها، وبنيتها، وخصائصها العامة، دراسة كمية". الديموغرافيا قبل أن تصل إلى هذا الاسم كان يطلق عليها بالإحصاء الحيوي والمورفولوجيا الاجتماعية، حيث أطلق إميل دوركايم لفظ المورفولوجيا الاجتماعية أو علم التشكل على الدراسات السكانية التي تتضمن دراسة أشكال المجتمعات وصيغها المادية والعناصر التي تتألف منها، وتوزيع السكان الجغرافي وحركة السكان وأنماط المساكن.

استعمل لفظ الديموغرافيا لأول مرة من طرف Achille Guillard سنة 1855م في كتابه "مبادئ الإحصاء البشري أو الديموغرافيا المقارنة"، وعرفها فيه على أنها "التاريخ الطبيعي والاجتماعي للأنواع الإنسانية وهو بالمعنى الضيق الدراسة الرياضية للسكان من حيث تحركاتهم العامة وأحوالهم الفيزيقية والحضارية والفكرية والأخلاقية".

ويعد John Graunt من المؤسسين للديموغرافيا، إذ أصدر كتاب سنة 1662م تحت عنوان "ملاحظات طبيعية وسياسية مبنية على قوائم الوفيات" الذي أخضع الظاهرة السكانية للتجريد الرياضي والإحصائي. ثم تتابعت الدراسات في علم السكان بدءا من William Petty صاحب كتاب "الحساب السياسي" سنة 1690، ثم" Johan Petter Sussmilch " في مؤلفه النظام الإلهي إلى غير ذلك من الدراسات. هذه الأخيرة منحت علم الديموغرافيا مكانة مهمة في العلوم الإنسانية والاجتماعية وأضحت تتداخل مع باقي التخصصات العلمية كالاقتصاد والجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاحصاء...، لكن بعد الحرب العالمية الثانية سيتزايد الاهتمام بالديموغرافيا مما مكن الباحثين في هذا الميدان من استخدام أساليب وتقنيات ومناهج خاصة بها متميزة عن باقي العلوم الأخرى، بحيث تعبر الحالة المدنية والإحصاء العام للسكن والسكنى مصدرين مهمين تعتمد عليهم في جمع المعطيات والبيانات حول السكان، ويغطي الجانب الكمي الخصائص الديموغرافية.

نستشف مما سبق؛ أن الديموغرافيا هي دراسة كمية ونوعية لخصائص السكان وديناميتهم فوق مجال جغرافي معين، وذلك بتوظيف تقنيات ومناهج خاصة بها، كما تعد أيضا ملتقى العلوم الإنسانية والاجتماعية على اعتبار أن الإنسان هو جوهر هذه الظاهرة، مما أدى إلى بروز تخصصات جديدة والتي سمحت بتعدد المناهج والطرائق في دراسة السكان منها الديموغرافيا الاقتصادية، الديموغرافيا الاجتماعية، والديموغرافية الوصفية والاحصاء الديموغرافي والديموغرافيا التاريخية.

الديموغرافية التاريخية:

تعتبر الديموغرافيا التاريخية فرع من فروع الديموغرافيا، وهي تتناول دراسة السكان في الماضي، وفي هذا السياق يقول Jean Bourgeois-Pichat هناك سلسلة من الدراسات تشترك في خاصية واحدة، وهي كونها تأخذ مادتها من الماضي، وقد ساهمت هذه الأبحاث في السنوات الأخيرة (يقصد بداية الستينات من القرن العشرين) في إيجاد فصل جديد من الديموغرافيا وهو الديموغرافيا التاريخية. هذه الأخيرة جاءت نتيجة تفاعل علمين هما التاريخ والديموغرافيا؛ بحيث لا يمكن حصرها في الدراسة الإحصائية البحثة للسكان وشخصياتهم وسلوكياتهم القابلة للقياس، لأنها منطقية فقط للمؤرخ بقدر ما تؤدي إلى تاريخ كامل وهذا فإن الديموغرافيا محكوم عليها بالازدواجية. ويقول L.Henry أنه من المفيد أن يتدخل عالم الديموغرافيا ليس ليحل محل المؤرخ بل أن يتعاون معه، كما اعتبر المؤرخ فرنارد بروديل أن الديموغرافيا من التخصصات المساعدة للتاريخ عندما تعرض لعلاقة التاريخ بالعلوم الإنسانية الأخرى، ومن هنا فالديموغرافيا التاريخية، هي مظهر من مظاهر احتواء التاريخ لتلك العلوم.

تهتم الديموغرافيا التاريخية بدراسة السكان من حيث حركتهم وتركيبتهم وتوزيعهم المجالي، والأزمات والأوبئة والمجاعات والكوارث التي مروا بها، وكذا نظم الزواج والوفيات والإرث وغيرها، وفي هذا الصدد حصر André Nouchi انشغال الديموغرافيا التاريخية ليس فقط في معرفة الخطوط العريضة للتطور الديموغرافي لمجموعة بشرية معينة، بل وأيضا في رسم تاريخ التطور الصحي لهذه الساكنة، بما في ذلك الأوبئة والأمراض، ودراسة الأزمات والهجرات المحلية والدولية؛ بمعنى أن توزيع السكان وتركيبتهم وعددهم يتحكم فيه ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي. بالإضافة إلى كون الديموغرافيا التاريخية تعد مساعدة للتاريخ إذ يعتبرها العديد من الباحثين واحدة من أفضل الوسائل المتاحة لهم لتفعيل الاهتمام المتجددة بالتاريخ الاجتماعي الذي حدث في بداية الستينات وذلك ببساطة توفير معرفة للسكان.

نستخلص من التعاريف السابقة، أن الديموغرافيا والديموغرافيا التاريخية مجالين متكاملين ولها نفس الحدود ويتطرقان إلى نفس الموضوع الذي هو "الإنسان" يكمن جوهر الاختلاف بينهم في كون الديموغرافيا تدرسه من حيث الولادات والوفيات والخصوبة الزواجية والهجرة...، في حين الديموغرافية التاريخية تدرس المتغيرات السالفة الذكر في سياقها التاريخي، كما يختلفان أيضا في المنهج والتقنيات التي تستعملهما كل واحدة على حدة.

نشأة الديموغرافيا التاريخية وتطورها:

حتى منتصف القرن العشرين كان المؤرخون لا يعرفون أعمال الباحثين الديموغرافيين، فالمؤرخون لم يهتموا إلا بالأرقام وظلوا متحصنين بالنقد التاريخي في حين انشغل الديموغرافيون في جمع الإحصائيات الرسمية ولم يحدث الانفراج إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ الديموغرافيون يهتمون بالتاريخ وبدأ المؤرخون بدورهم يهتمون بالديموغرافيا، وبالتالي فالمؤرخ لا يمكنه إهمال عدد السكان فيجد نفسه في مجال الديموغرافيا. إذن فالديموغرافيا التاريخية تمثل مجال للبحث بالنسبة للديموغرافيين والمؤرخين، كما عملت بطريقة غير مباشرة في تجديد التاريخ.

ظهرت البوادر الأولى للديموغرافية التاريخية كفرع جديد من الديموغرافيا في أوربا الغربية سنة 1950م وبالضبط في فرنسا مع الديموغرافي Louis Henry الذي يعد المؤسس الأول للديموغرافيا التاريخية كما وضع أيضا مناهجها، والمؤرخ Pierre Goubert مع مطلع خمسينات القرن العشرين، حيث كان L. Henry أول من قام بدراسة سجلات الأبرشيات للحالة المدنية التي يحتفظ بها كهنة الرعايا قبل الثورة وكان يسجلون فيها التعميد والزواج والدفن، كما خصص جل أبحاثه في دراسة وفهم الخصوبة الطبيعية بشكل أفضل معتمدا في ذلك على سلاسل الأنساب للطبقة الحاكمة في جنوب ميليشيا، في حين تناول Goubert هذه السجلات من منظور تاريخي، يعني أن المؤرخون والديموغرافيون يدرسون السكان ولكن كل علم يقاربه بطرقه ومناهجه ومصادره الخاصة، وبالتالي فالديموغرافيون والمؤرخون مدعوون إلى استغلال سجلات الرعايا باعتبارها "ثروة ديموغرافية ".

ويرى أحد أقطاب مدرسة الحوليات التاريخية الفرنسية أن الديموغرافيا التاريخية ظهرت في إطار انفتاح التاريخ على مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والبحث عن علوم مساعدة للتاريخ، ومن ثم أصبح المؤرخ عالم اقتصاد وسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا وسيكولوجيا، وعالم لسانيات وديموغرافيا الأمر الذي أدى إلى نشأة تاريخ اقتصادي، وجغرافيا تاريخية، وديموغرافيا تاريخية، وتاريخ اجتماعي.

وفي الفترة الممتدة ما بين 1956م و 1960م في فرنسا، أصدر الديموغرافيون والمؤرخون عدة أعمال مشتركة بينهم مما أعطى نفسا جديدا للديموغرافيا التاريخية، من أبرز الأعمال التي تم صدورها:

  • - أصدر L.Henry و Michel Fleury الأمين العام لدار المحفوظات "دي لاسين" مقال تحت عنوان:
  • Les registres paroissiaux à l’histoire de la population;
  • في عام 1958م أنشئ المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية من طرف  Alfred Sauvy ووضع المعهد بحثا استطلاعيا ومسح سكاني وطني من أجل معرفة سكان فرنسا منذ لويس الرابع عشر، ويشار إلى هذا التحقيق "باستقصاء هنري"؛
  • وفي نفس الفترة أنجز J. Meuvret بحثا حول تاريخ الأسعار فلاحظ وجود تطابق بين الغلاء والوفيات في جيان Gien ، ونشر Marcel Reinhard دراسة حول بوفيهBeauvais ؛
  • - صدور أول مونوغرافية قروية في سنة 1958 من طرف :
  • L.Henry , population de crulai 1958 ; - Etienne Gautier;
  • تم جاءت دراسات أخرى من طرف:
  • - Pierre Gouhier , la population de port-en – bessin 1962;
  • - Jean Ganiage, trois village de l’lle de France 1963.

وفي 1962م نشأت جمعية للديموغرافيا التاريخية بمبادرة من مؤرخين وديموغرافيين أمثال ل l. Henry و J. Daupauier و Louis Chevalier ، وهذه الجمعية أصدرت مجلة متخصصة تحت اسم حوليات ""les annales de démographie historique ويضيف J.B. Pichat  إلى ذلك محاور أخرى شكلت برنامجا طموحا للديموغرافيا التاريخية الفرنسية وهي:

  • دراسة أسباب الوفيات في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر استنادا إلى مختلف الوثائق الطبية والإحصائية؛
  • تحليل السجلات الأبرشية للقرن السادس عشر ولبداية القرن السابع عشر لتوفير معلومات منهجية في إطار الإعداد لدراسة عامة وفق نفس المنهج؛
  • إنجاز دراسة أنثروبولوجية لساكنة الذكور الفرنسية خلال القرن التاسع عشر انطلاقا من الوثاق العسكرية.

ثم توالت الدراسات السكانية في إطار الديموغرافيا التاريخية في عدة مناطق بفرنسا، وذلك باستغلال المعطيات القديمة من أجل معرفة سكان فرنسا قبل عام 1800م معتمدين على السجلات الأبرشية إذ حددت عينة من الأبرشيات وأُخضعت للدراسة لإعادة بناء الأسر ودراسة الولادات والوفيات، وبفضل عدة مونوغرافيات محلية أو دراسات إقليمية أو دراسات حضرية رسم الجدول الديموغرافي الفرنسي في عهد النظام القديم.

تزايد صدى الديموغرافية التاريخية خارج دول أوربا التي تبنت هي الأخرى نفس الطريقة والمنهج في استغلال سجلات الأبرشيات بغية معرفة سكان بلدانها، ففي إنجلترا مثلا تأسست جماعة كمبردج لتاريخ السكان والتركيب الاجتماعي في 1964م، وتعد هذه الجماعة نواة للبحث في الديموغرافيا التاريخية ببريطانيا. وفي كندا قام مختبر الديموغرافيا في جامعة مونتريال لاسترجاع كل الأسر الكندية المنحدرة من أصل فرنسي منذ القرن السابع عشر، وهنا نستحضر دراسة جاك هنيريين للسكان الكنديين في القرن الثامن عشر.

مصادر الديموغرافيا التاريخية:

عرفت معظم الحضارات القديمة تعدادا لسكانها إلا أنها كانت وفق أهداف إدارية أو جبائية أو عسكرية، أما أوربا فقد شهدت تسجيلا دقيقا للأحداث الديموغرافية مع أواخر القرن الثامن عشر، في حين عرفته بعض القارات كإفريقيا وأسيا إلا مع نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين.

إذا كانت الديموغرافيا تعتمد على مصدرين أساسين هما الإحصاءات السكانية وسجلات الحالة المدنية، فإن الديموغرافيا التاريخية لا تتوفر استثناء على مصادر إحصائية بعضها دقيق، وبعضها الأخر غير دقيق. وتعتبر السجلات الأبرشية وهي عبارة عن وثيقة من الدرجة الأولى لدراسة التركيبة السكانية في الماضي، هذه السجلات يحتفظ بها الكهنة يدونون فيها مراسيم التعميد والزواج والدفن، وتمكن هذه السجلات الباحثين في حقل الديموغرافيا التاريخية على معلومات تخص الولادات والوفيات غير أنها تحتوي على حلقات وثغرات مفقودة، مما يتطلب استغلال عقلاني لهذه الثروة الهائلة من التوثيق الديموغرافي القديم، كما تم إنشاء الحالة المدنية العلمانية في عام 1792 م، كما أن الكهنة في فرنسا احتفظوا بسجلات منذ القرن السابع عشر سجلوا فيها الأسرار المقدسة.

كما أن هذه السجلات تسمح بمعرفة عدد حالات الزواج، وسن الزواج ومدته، ووتيرة حالات الزواج والولادات، ومعطيات حول الخصوبة والإنجاب والمدة الفاصلة بين حمل واخر، ومعدل الذكورة وتحديد العمر عند الوفاة ومعدل أمل الحياة والعمر المتوسط ويمكن أن تقدم معطيات حول مكان السكنى، ومهنة الأباء ومستوى التكوين الذي تضيء بعض جوانبه توقيعات العقود، كما أن المؤرخ الديموغرافي يلجئ إلى مصادر خارجية والتي لم تكن لأغراض علمية كسجلات الكنائس التي سجلت فيها الخوريات منذ القرن السابع عشر والتعميد والزيجات والدفن، بالإضافة إلى سجلات الضرائب وعقود الزواج وتسجيل الجنائز. كما يستغل المؤرخ في الديموغرافيا التاريخية أيضا بعض المصادر غير المباشرة كأعداد الفرسان والمشاة والمنازل والأسر بالإضافة إلى وثائق المستشفيات الرسمية.

تعتبر هذه السجلات المصدر الوحيد لدى المؤرخ الديموغرافي لدراسة السكان في الماضي خصوصا في فرنسا بعدما أصدرت السلطة الملكية القانون سنة 1736م العام لاستخدام السجلات بشكل صحيح وأصبحت بذلك السجلات الكنسية سجلات الحالة المدنية، فهذه السجلات تفرض عليه التعامل معها بكل حذر لأنها تتميز بحلقات مفقودة وثغرات كبرى كما هو الشأن بالنسبة لسجلات الضرائب التي كانت تستعمل لتوفير معلومات عن الوضع الاقتصادي، فيضطر المؤرخ إلى تأويلها ويضيف بعض الأرقام لسد الثغرات اعتمادا على وثائق أخرى.

أما الدول العربية لم يهتموا بتسجيل وضبط الأحداث الديموغرافية، ولم يكن الوعي بتدوين المعطيات السكانية لذاتها أو لأغراض إحصائية حاضرة لديهم، وإنما كان يتم تسجيل ما يتعلق منها بالزيجات والولادات والوفيات والأنساب عند الحاجة إليها في مجالات اجتماعية وعلمية غير ميدان السكان كدراسة عدالة الرواة ومعرفة وفيات العلماء وتدوين أنساب القبائل وضبط التنظيم الإداري والمالي للدولة الإسلامية بوضع سجلات الدواوين، كديوان الجند، ديوان الخراج، ... كما أنهم كانوا يؤرخون بعض الأحداث السكانية بالوقائع الكبرى والحوادث التي تحفظها ذاكرتهم الجماعية.

انطلاقا مما سبق نستنتج أن؛ مصادر المؤرخ الديموغرافي في أوربا تقتصر عل سجلات الابرشيات والضرائب والمستشفيات والأنساب، أما في الدول العربية والإسلامية فمصادرها متنوعة وحسب "محمد حالي" أن كل المصادر التاريخية التقليدية، بما فيها كتب الأنساب والطبقات والتراجم والوفيات وكتب السيرة والمغازي والتاريخ العام وكتب الحديث وأدب الرحلات، وكتب النوازل الفقهية وسجلات الخراج والضرائب وتقاييد كنانيش المحاكم الشرعية ومختلف العقود ذات الصلة بالمواريث والبيوع والأحوال الشخصية، توفر للباحث في هذا الحقل المعرفي الجديد صنوفا من المعارف السكانية التي تتصل بشكل أو اخر الأحداث السكانية المختلفة كالزيجات والولادات والخصوبة والوفيات والهجرات السكانية.

أما الحديث عن الديموغرافية التاريخية في المغرب فهو شبه غائب؛ نظرا لغياب التأطير الإداري في مغرب ما قبل الحماية، وخصوصا ما قبل ترتيبات نهاية القرن التاسع عشر، جعله يفتقد للسجلات الولادة والوفيات وسجلات الجبايات، بالإضافة إلى كون أغلب الأسر المغربية كانت لا تتوفر على الحالة المدنية، وكذلك غياب تواريخ الولادات والوفيات والزواج.

تقنيات ومناهج الديموغرافيا التاريخية:

يلجأ المؤرخ الديموغرافي إلى الاعتماد على تقنيات ومناهج خاصة لدراسة السكان بناء على المصادر السالفة الذكر، لذلك يجب على الباحث أن يشير إلى التقنية التي سيتبعها حسب كل مصدر.

أشاد Alfred Sauvy على أهمية المعلومات التي يمكن أن يحصل عليها ليس فقط بتطور مستوى السكان، ولكن أيضا يمكنه معرفة معدل انخفاض الولادات وبداية تحديد النسل، وبالتالي يمكن أن تكون فرنسا الدولة التي تعرف نظام سكانها قبل الإحصاء، بعد سحب القرعة من العينات للبلديات ثم تحديد الأهداف:

  • وضع حالة التوثيق (السجلات)؛
  • إجراء تحليل موجز للسجلات؛
  • استخدام أسماء القوائم من البداية منذ القرن التاسع عشر.

ومن بين التقنيات التي يعتمد عليها المؤرخ الديموغرافي نجد الملاحظة التراجعية والمستعرضة والطولية غير أنها صعبة التطبيق، مما دفع L.Henry إلى ابتكار تقنية إعادة تكوين العائلات باستعمال الجذاذات المتبعة في الدراسات الديموغرافية التاريخية، ويعد L.Henry أول من وضع قواعدها واستخدامها مع Goutier سنة 1956م، وكان الهدف من ورائها هو معرفة واسعة حول جميع الجوانب الرئيسية للتركيبة السكانية لفرنسا في ظل النظام القديم، كتكوين الأسرة، المواليد، الوفيات، سن الزواج، وعمر الأم عند كل مولود جديد، ومدة الزواج، الترمل، الزيجات،... إن هذه التقنية تعمل على دراسة قرية أو بلدية واحدة، وتهم بالدرجة الأولى بتقدير العمر الذي يتزوج فيه الناس، أو ينجبون أو يتوفون، فإذا تم تدقيق هذه الحقائق الأساسية حول الأسرة في سياق تاريخي، فإنه يمكن فحص الخصوبة والوفيات بنوع من التفصيل، وبالتالي يصبح التحليل الديموغرافي المعقد والمعمق جدا ممكن.

بالرغم مما قدمته تقنية إعادة تكوين العائلات من نتائج إيجابية إلا أنها تعرف عدة صعوبات، كصعوبة تحديد عدد السكان في منطقة معينة، وبالتالي فالهجرات التي حدثت تمنع إعادة التكوين الشامل للعائلات، كما يقدم علماء الأنساب معلومات قليلة عن مصادرهم كما أنهم لا يشيرون إلى أصل التواريخ التي يذكرونها وتشتت فترات الولادات وكذلك الوفيات، وكذلك سن الخصوبة، ولتصحيح البيانات يلجئ المؤرخ الديموغرافي إلى وثائق أخرى كسجلات الضرائب والتعدادات.

في الآونة الأخيرة وبفعل تقدم البرامج الإحصائية سهلت استخدام هذه الطريقة التي كانت فيما سبق تتطلب جهدا كبيرا وتكاليف باهظة ووقتا طويلا، ومكنت أيضا من تصحيح الأخطاء وتدارك الثغرات المفقودة الموجودة بالمصادر والبيانات القديمة.

أهمية الديموغرافيا التاريخية:

ساهمت الديموغرافيا التاريخية في معرفة الحركة السكانية في بعض البلديات والقرى والمدن منذ القرن السابع عشر، كما ساعدت الديموغرافيا المؤرخين الذين كانوا يبحثون عن طرق جديدة لفهم أفضل، وأعرافهم، وطريقة حياتهم، وبالتالي تجديد أساليب العلوم التاريخية. كما جعلت الديموغرافيا التاريخية المادة العلمية التاريخية قابلة للقياس والتصحيح وذلك بتوظيف المنهج الكمي، كما صنف "François Furet" الديموغرافيا التاريخية كإنتاج جديد "للتاريخ الجديد".

مكنت الديموغرافيا التاريخية أولا من معرفة التاريخ الديموغرافي للساكنة في الماضي عن طريق إعادة تكوين العائلات، كما ساهمت المناهج والتقنيات في التحليل الديموغرافيا والمنهج التاريخي الكمي في التاريخ، وأيضا ساعدت الديموغرافيا التاريخية في إعادة كتابة التاريخ من خلال السجلات الأبرشية وقوائم الضرائب ...، كما أتاحت تقنية إعادة تكوين الأسر فرصة للمؤرخين وعلماء الديموغرافيا العمل معا وفق مقاييس ديموغرافية أكثر دقة من معدلات الولادات والوفيات والزواج الخام وإجراء التحليلات الجماعية.

خاتمة:

بفضل المدرسة الفرنسية للديموغرافيا التاريخية، ولمؤسسها Louis Henry وأعضائها البارزين كانت فرنسا أول دولة عادت بالزمن إلى الوراء للبحث عن المجهول فيما يتعلق بسكانها، وتوجت بنشر النتائج الأولى حول التركيبة السكانية للنساء والرجال الفرنسيين في القرن السابع والثامن عشر الذي تبناهLouis Henry ، وبذلك اشتغل كل من الديموغرافيين والمؤرخين على التاريخ منذ ولادة الديموغرافيا التاريخية، وفي هذا السياق يقولLouis Henry "أنه من المفيد أن يتدخل عالم الديموغرافيا ليس ليحل محل المؤرخ بل أن يتعاون معه". كما ابتكر الباحثين في هذا المجال تقنيات "كإعادة تكوين الأسر" ومناهج كمية وكيفية نظرا لطبيعة المصادر التاريخية التي يوجد بها ثغرات ونواقص، تجدر الإشارة إلى أن الديموغرافية التاريخية ساهمت في فهم تاريخ السكان.

المصادر والمراجع:

  • خضرة راشدي، الديموغرافيا التاريخية، ماهيتها وأهميتها، مجلة مقدمات، العدد السابع يونيو، 2018؛
  • فتحي محمد أبوعيانة، جغرافية السكان، دار الجامعات المصرية، الطبعة الأولى، 1977؛
  • محمد حالي، الديموغرافية التاريخية للمغرب الوسيط من خلال تاريخ ابن خلدون، مجلة المستقبل العربي، العدد 416، 2013؛
  • محمد حالي، تطور الديموغرافيا التاريخية في سياق التاريخ الجديد، دورية كان التاريخية، العدد الرابع والعشرون، يونيو 2014؛
  • محمد حبيدة، الديموغرافية التاريخية ملاحظات على ضوء كتب الأنساب مجلة كنانيش الديموغرافيا التاريخية، جامعة وجدة، العدد الرابع، خريف 2002؛
  • مصطفى السلماني، طرق التحليل الديموجرافي، جامعة الكويت، الطبعة الأولى، 1994؛
  • Alfred Perrenoud, Où va la démographie historique ? Analyse du contenu de la bibliographie internationale de la démographie historique, Annales de démographie historique, 1986 ;
  • Hubert Charbonneau, Louis Henry et la Démographie historique, in population, 50 années, n°6, Cinquante années de population, 1995;
  • Louis Henry, Une richesse démographique en friche : les registres paroissiaux, in population, 8 -ème année 1953;
  • Osamo Saito, Historical demography: Achievements and prospects, population studies, november 1996, vol 50 n° 3;
  • René le Mée, de la naissance de la démographie historique à l’enquête Henry , in Population, 50 année, n°6, 1995.

تعليقات