أخر الاخبار

المجتمع الفرعوني

 تقديم عام

تحتل مصر مكانة متميزة بين مجموع دول الشرق الأوسط بحكم تاريخها الطويل، وموقعها الجغرافي الخاص، وثقلها الديمغرافي والاقتصادي والسياسي، ناهيك عن إسهامها المبكر والقوي في ميدان الثقافة والفنون، لذلك فهي تعتبر بمثابة القطب الأكبر الذي يفرض حضوره القوى والمؤثر في مختلف القضايا المصيرية التي تهم منطقة الشرق الأوسط.

سكنت مصر قبائل متنقلة تعتمد على الصيد في المرتفعات التي تحيط بوادي النيل العظيم، ومع اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات وتطوير الأدوات الحجرية ومع تطوير قوى الإنتاج في مصر بدأت ملامح النظام العشائري في الزوال لتظهر الجماعات الفلاحية وأصبحت تتفتت أملاك العشيرة إلى ملكيات زراعية خاصة، وقد أدى تطوير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى التحول من النظام القبلي إلى نشوء دولة: فظهرت بذلك دولتان في مصر، دولة مصر العليا ودولة مصر السفلى وعمل حكام مصر العليا على إخضاع مصر السفلى لسلطتهم وتأتى لهم ذلك مع مينا الذي استطاع توحيد مصر سنة 3333 ق.م وبهذا تمكن الملك مينا تأسيس أول سلالة حاكمة في مصر والتي كانت بداية لثلاثين أسرة حكمت مصر الفرعونية على مدى ثلاثة مراحل أساسية (مرحلة الدولة القديمة - مرحلة الدولة الوسيطة - مرحلة الدولة الحديثة). وتعرضت خلال هذه المرحلة الطويلة لعدة غزوات من جهة الفرس والإغريق والرومان والبيزنطيين، وغيرهم من الشعوب المجاورة، كما قامت هي كذلك بغزوات في اتجاه الشرق والجنوب.

انقسم المجتمع الفرعوني إلى عدة فئات كان على رأسها الفرعون والكتاب والكهنة، بينما كانت فئة الجنود والحرفيون والفلاحون والعبيد والأسرى في أسفل الهرم
تميز المجتمع في مصر القديمة بالطبقية

أصل المصريين القدماء

فهم تألفوا من شعب أصيل هبط من الهضبتين الشرقية والغربية، بعدما حل الجفاف فيهما منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد ليستقروا تدريجيا في الدلتا والوادي حيث بدأ النيل بحفر مجراه. واختلط سكان مصر مع قبائل عديدة بعضها من أصل ليبي، وأخرى من شرق أفريقيا، وبعض السلالات الآسيوية من شبه الجزيرة العربية.

تقع مصر في الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا فهي تطل على البحر الأبيض المتوسط شمالا، وتطل كذلك من هذه الجهة بفلسطين وشبه الجزيرة العربية عن طريق سيناء بينما تجاورها بلاد النوبة في الجنوب وليبيا في الغرب.

مصر هبة النيل

إن أبرز ما يميز مصر في جغرافيتها وتاريخها نهرها العظيم النيل، مصدر الحياة والذي قال فيه هيرودوت "إن مصر هبة النيل". إذ لولاه لأصبحت مصر صحراء جرداء، فهي قطر عديم المطر بوجه أساسي، فيكون النيل وما على جانبه من الأراضي الضيقة ببلاد مصر التي يمكن فيها الحياة والعيش. وهذا بفضل الرواسب التي يحملها فيضانه المنتظر في كل سنة، فلولاه لما تشكلت الضفتان المخضرتان وسط الصحراء المترامية على الجانين شرق وغرب. ينبع النيل من أواسط إفريقيا وجبال الحبشة بروافده العديدة فترتفع مياهه، يبدأ فيضانه في منتصف شهر يونيو تاركا وراءه توضعات خضراء ثم حمراء، ويزداد صبيبه في غشت ليصل إلى أقصى منسوب له في شتنبر، ثم يشرع في التراجع خلال الخريف. وتمكن رواسب النيل الغنية الفلاحين من جني ثلاثة محاصيل في السنة. وبذلك تعبر هذه الفيضانات حدثا بارزا في حياة المصريين لأنها تسجل لبداية السنة الفلاحية. ويمتد النيل على مسافة ألف كيلومتر بأرض مصر لينتهي بدلتا مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي شكل الماء والتربة عنصران أساسيان في قيام وازدهار الحضارة المصرية القديمة.

ومن هنا نستحضر أنشودة النيل: أيها النيل سلام عليكم... يا منعش مصر، ويا ساقي الصحراء... فإذا تأخرت، يصاب الجميع بالبؤس... إننا نحييك كما نحيي الفرعون، عندما يأتي موسم الفيضانات، تغمر مياهك مصر السفلى والعليا... عندما يجتاح الفيضان الأراضي، نتقدم إليك بالقرابين وننحر الأضاحي... أيها النيل... أنت الذي يحيي الإنسان والمواشي بفضل مياهك التي تروي الحقول....

لقد لعب النيل دورا كبيرا في الاستقرار البشري على ضفافه نظرا لكون المناخ السائد في مصر هو المناخ الصحراوي، باستثناء منطقة الدلتا وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط.

إن أول ما ينبغي معرفته عن حياة المصريين أنهم كانوا قوما يشتغلون بالصيد، فقد كان النيل يغمر واديه المنخفض بالمياه، وكانت بعض الأمطار تسقط على الهضاب المجاورة التي كانت تعيش فيها أنواع من الغزلان والثيران وكثير من أنواع الحيوانات الأخرى. كما استطاع الإنسان المصري تربية بعض الأغنام وبدل عناية خاصة في إعداد المراعي لها، وأن أول ركن تقوم عليه مهنة الصيد هو احتفاظ القبيلة لنفسها بحقوق خاصة على مساحة معينة من الأرض، بحيث لا تتعدى على تلك الحقوق قبائل أخرى. وإن تعدت كل قبيلة حدودها تنشب بينها الحرب، ولقد استمرت الحروب بين القبائل للظفر بموطن الصيد ومناطق جمع الثمار للحصول على اللحوم والفاكهة والحبوب والجذور والعشب وهكذا كانت حياة المصريين القدماء قائمة على جمع الثمار البرية وصيد الحيوانات.

ومن فينة وأخرى كانت التساقطات المطرية ضعيفة ترتب عنها قلة موارد مياه النيل وانحسر الماء عن مسطحات غريبة تصلح للزراعة، وقل عدد الحيوانات فوق الهضاب. استطاع المصريون اكتشاف الزراعة والاستقرار في القرى، فانضمت القبائل بعضها إلى بعض وتعاونت لمواجهة خطر الفيضانات وتنظيم الري وهكذا تكونت عدة إمارات، بسبب طبيعة الأرض التي آثرت بشكل كبير على تطور الحضارة المصرية، بل إن هذا الأثر مازال مستمر إلى يومنا هذا، وله وزن كبير في تطور أحداثها التاريخية.

طبقات المجتمع المصري

الفرعون:

يأتي على رأس فئات المجتمع المصري، وترجع كلمة فرعون إلى اللفظ المصري برعا أي البيت الأعظم الذي يشير إلى القصر، والفرعون يسمى بالملك، ويطلق عليه لفظ نسو بمعنى جلالته، ولقب الفرعون بعدة ألقاب منها (الحورى، النبتي، حورس الذهبي، ملك الجنوب والشمال، ابن رع...)، كان الفرعون يحظى بمكانة كبيرة داخل مجتمعه وثم تصويره بنفس حجم قامة الآلهة، وكانت الملكية المصرية ملكية مقدسة. وكانت وظيفته هو أن يكون امتداد لعمل الخالق عن طريق المحافظة على النظام الذي أرسله هذا الخالق، كما التزام بإنشاء وإصلاح وترميم وتوسيع معابد الآلهة، بالإضافة إلى كونه هو الذي يقود الشعائر أثناء الاحتفالات الدينية والأعياد.

عادة ما كان يوكل كبار الكهنة للقيام بهذه المهمة. واضطلع الفرعون أيضا بأدوار سياسية وعسكرية من خلال العمل على توسيع حدود أراضيه وحماية مصر من هجمات وغزوات الشعوب المجاورة ورئاسة الدبلوماسيين في الخارج، وكان قائدا للجيش. كما كان الفرعون ممثلا للخالق هو سيد الأرض والأملاك والبشر فهو يقوم إذن بإدارة مجموعة القوى والوسائل الخاصة بالإنتاج عن طريق تضافر مجموعة من المؤسسات والبشر، وتوزعت هذه القوى والوسائل بين ممتلكات العرش والإدارة المركزية ومكانتها، وأملاك المعابد والمؤسسات الجنائزية الخاصة. فكل منها استقلاليتها الشخصية. ومن بين أدواره أيضا كان يفرض الضرائب، كما يقوم الفرعون كذلك بدور الحكم في المنازعات التي تنشأ بين المنافسين والمتنازعين، ويلتزم باحترام القوانين، ويبث في المنازعات الخاصة في الأراضي، ويقوم بالمبادرات في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وفقا لضرورة الأحوال، كما يستدعي الأشخاص المتهمين للمحاكمة، ويؤكد الأحكام الصادرة.

كان الملك يستمد شرعيته بالانتساب للآلهة وفي هذا السياق نجد فرعون تحمس الثالث يقول: "كنت متمتعا بعظمة إله أمون، مشبعا بحكمة الآلهة مثلي مثل الإله حورس الذي ترعرع في بيت والده أمون رع كما كنت قد وهبت صفات ربانية .... ". ونجده أيضا يقول "أنا عائل الأرض ومن عليها، انتشلت الإنسان من بؤس، مددته بالهواء وصنته من سلطة القوى...، وسمعت الأرض طوال حكمي...، فعلت الخير للآلهة كما فعلت بالبشر...، أنهيت حكمي على البسيطة كسيد للأرضين مصر العليا ومصر السفلى ... كنتم خداما عند قومي وكنتم أعزاء على قلبي، كما كانت أعمالكم ...، هلا قرأتم أوامري وكلماتي، هكذا أرقد في مثواي كأبي الإله رع".

بهذا فإن الفرعون كان يجمع بين يديه مطلق السلطان ويتمتع بكافة الامتيازات، وفي نفس الوقت يضطلع تجاه بلده وتجاه رعاياه بواجبات أثقلت كاهله، ومع مرور الزمن، فإن الملك يقتسم سلطاته وامتيازاته ومسؤولياته مع كبار موظفيه المدنيين والدينيين والعسكريين الذين دأب على اختيارهم من بين أفراد أسرته. وعند وقوع الاضطرابات والغزوات الخارجية ويعم الرخاء وتظهر وظائف جديدة يتضح عدم فاعلية السلطة الشرعية. وقد فتحت هذه الأوضاع الطريق أمام عين من أعيان الريف أو أحد العسكريين أو أحد الكهنة ليستولي على السلطة ويتربع على عرش البلاد.

طبقة الكتاب:

الكاتب هو ذلك الشخص الذي يتقن الكتابة الهيروغليفية ويسمى بالكاتب، لأنه يكتب سواء كتابة الدواوين أو السجلات أو لإنتاج كتب الحكمة أو لقيد الحسابات والمساحات، مع العمل على جرد وإحصاء لكافة الأحياء، بمعنى حصر الجند والكهنة المطهرين وموظفي الملك ومختلف الحرفيين في أرجاء البلاد وحصر الماشية بأنواعها والطيور الداجنة.

كان يشترط فيهم الكفاءة ومعرفة الكتابة الهيروغليفية وقد استغلوا سلطتهم فاغتنوا على حساب السكان كما منحت لهم عدة امتيازات كمنعهم من الضرائب.

تملك الكتاب ثروات ضخمة ومساحات زراعية كبرى، وكانت هيئة الكتاب أساس الدولة وعماد المجتمع وهم الذين شكلوا الفكر المصري واحتفظوا بمستوياتهم خلال ثلاثة ألاف عام، وكان الكاتب في مصر السفلى والعليا يترأس كل الجيوش ويقود الولاة أمام الفرعون ويحدد لكل فرد من الرعية عدد الخطوات التي يخطوها، إنه يقود البلد كله. وأيضا كان الكاتب سيدا وكان يعلم هذه الحقيقة ويكررها كثيرا في أوراق البردي، إن الكاتب هو الذي يفرض الضرائب على مصر العليا ومصر السفلى وهو الذي يجمعها، إنه هو الذي يمسك حساب كل شيء.

طبقة الكهنة:

فقد جاء ترتيبهم في قائمة الأعلام قبل العمال والحرفيين، والكهنة هم رجال الدين، وكان للكهنة نفوذ ومكانة في الحضارة المصرية ومن الممكن القول إن وظائف الكهنة والتفرغ إلى هذه الوظائف والتخصص بها لم تكن واضحة قوية في العصور القديمة، فكانت العادة أن أغلب الناس من ذوي المكانة في المجتمع يشتغلون إلى جانب أعمالهم ووظائفهم الأخرى منصبا كهنوتيا، فالقضاة مثلا كانوا كهانا لإله العدل وكان الأطباء كهنة الإله "سخمت"، كما أن كثيرا من الوظائف الكهنوتية كانت متوارثة في الأسرة النبيلة، وكان النساء يشتركن في الوظائف والأعمال الكهنوتية أيضا. وكانت هناك أعمال ومراسيم دينية تقتضي التفرغ لها والخدمة المستمرة من جانب رجال الدين المحترفين وكان كبار الكهنة ذوي مراكز عالية في الدولة.

واستمرت عادة اشتغال كبار الموظفين مناصب كهنوتية إلى جانب وظائفهم المدنية في عهد الدولة الوسطى، ولكن تضاءل شأنهم وأخذت شؤون الدين تحتكر من جانب كهنة محترفين متخصصين وكان لكل معبد مجمع كهنوتي يشرف عليه من أمير الإقليم أو حاكم الإقليم الموجود في ذلك المعبد. وكانت هيئة الكهنة في كل معبد متنوعة الوظائف ومختلفة في الدرجات.

ومع مرور الزمن فقد ارتفع مركزهم في الدولة وازداد عددهم وطبقاتهم وثرواتهم ازديادا كبيرا، حيث صار لهؤلاء الكهنة نفوذ واسع كان أبرز عامل في تعاظم نفوذ الكهنة في عهد الإمبراطورية ثراؤهم المفرط الذي حصلوا عليه في هذا العهد وكان مصدر هذا الثراء من الهدايا الجسيمة التي يقدمها الملوك إلى معابد الآلهة وهذه الهدايا كانت متعددة تتألف من الحقول والبساتين والأملاك والأحجار الكريمة والمعادن والثروة الحيوانية الهائلة التي جناها الفراعنة من حروبهم وغنائمهم خارج مصر. 

من هدايا رمسيس الرابع لكبير كهنة معبد أمون، "وهبتك مراعي في مصر السفلى والعليا، مع مئات الآلاف من قطيع البقر والطيور، ومعها كثير من المراقبين والموظفين والرعاة ليشرفوا عليها...، زرعت لك الكروم في الواحة الكبرى والواحة الصغرى.....، وزودتها بالعمال من أسرى البلاد الأجنبية".

ويتكلفون أيضا بتسيير المعابد وكانت هذه المعابد، تؤلف ممالك مصغرة في إدارتها ولاسيما معبد أمون في طيبة فكان لهذا الإله إدارة عامة لأملاكه ودائرة خاصة للخزينة وإدارة الأرض الزراعية وإدارة مخازن الحبوب والماشية، وكان لكل إدارة رئيس وكتاب وموظفون. كما أنه كان للمعابد إدارة خاصة للبناء والترميم، وكان لها أيضا قوة عسكرية خاصة من الضباط والجنود والسجون والمحاكم. مع هذا الاحتكاك للكهنة مع مختلف القوة داخل المعبد استطاعت هذه الطبقة أخد زمام السلطة في الدولة ولعل هذا ما حدا بأخناتون إلى الثورة على عبادة الآلهة القديمة ومناوأته لعبادة الإله "أمون" وكهنته. كما انتقلت السلطة الفعلية إلى أيدي كبار الكهنة في عهد السلالة الواحدة والعشرين. فكان الكهنة لا يستهلكون ولا ينفقون شيئا من ثرواتهم الخاصة. غير أن ممتلكاتهم قد نقصت في عهد الملك خوفو.

فئات داخل طبقة الكهنة:

كان على رأس الكهنوت في كل معبد مصري ما يسمى بالكاهن الأول أو الكاهن الأكبر وكان له شخصية بارزة في المجتمع وإن ارتبطت سلطته إلى حد كبير بالإله الذي يقوم على خدمته وفي غياب الملك توكل له مهمة، إقامة الاحتفالات والشعائر اليومية والمواكب الآلهة *الفطنة* وكان للكاهن الأكبر أيضا وظائف إدارية بجانب رياسته الدينية.

الكهنة المرتلون: وهم الدين يفسرون الكتب المقدسة، هناك جماعة الدارسين والمثقفين في بيت الحياة: وكانوا يقومون بالعمل في غرفة قرب المعبد، ويعنون بالكتب الدينية، وهناك جماعة الكهنة حفظة الوقت وجماعة الفلكيين: الذين يحددون أيام الأعياد وأيام المآسي، كما هناك الإداريون: الذين كانوا يشرفون على ممتلكات المعبد ومخصصاته، وكان يرأسهم جميعا حاكم الإقليم الذي كان يلقب بالمشرف على الكهنة.

طبقة الجنود:

يمكن القول بأن مصر القديمة لم يكن لها جيش ثابت منظم حتى نهاية الدولة القديمة، إذ كان لكل مقاطعة قواتها الخاصة.  كما كان لكل معبد من المعابد الكبيرة قواته الخاصة، ولم يحصل إطلاقا اتحاد بين هذه القوات إلا في حالات نادرة، كما حدث مع "ونى" الذي عين قائد عاما لهذه القوات لصد الهجمات التي قام بها الآسيويين، وقد جمع هذا الأخير الجيوش من عشرات الآلاف من المجندين من جزيرة أسوان ومن النوبيين واللبيين ومن الدلتا. وقد صور ونى كثافة جيوشه وجندها بإمكانيات عسكرية للدفاع عن البلاد من أي هجوم محتمل. وكان لرجال الدين دورا كبيرا في الحروب إذ كانوا يثيرون حماس الجنود، ويذكرونهم بالأرباب والولاء والرؤساء والحرص على تقاليد الدين.

وإن كان من الصعب جعل مسألة أن الدولة المصرية القديمة لم يكن لها جيش نظامي ثابت، ذلك أن الملوك لم يستطيعوا الاستغناء عن وجود الجيش في حالة حدوث أزمة أو غزوات أو حتى ثورة، فإن الاعتماد على المتطوعين قد يؤدي بالبلاد إلى حافة الخطر.

وفي عهد الدولة الوسطى كان هناك شبه استقلال للأقاليم، ومن ثم فقد كانوا يحتفظون لأنفسهم بقوات مشكلة على غرار جيش الدولة. كما كان للفراعنة أنفسهم حرس خاص ولم تكن هذه القوات الخاصة بالحكام أو الدولة تستخدم في الحروب فحسب وإنما كانت تقوم بأعمال أخرى في وقت السلم، كحماية البعثات التجارية وبعثات استغلال المناجم والمحاجر في الصحراء، وحتى جاء "سنوسرت الثالث" والذي استطاع القضاء على نفوذ أمراء الأقاليم، ومن ثم قد رأى اعتماد الملكية على جيوش حكام الأقاليم إنما كان يمثل أشد الخطورة على العرش، وبالتالي فقد أسرع بتكوين جيش ثابت للملك.

وكان الملك هو قائد للجيش، وفي حالة غياب الملك كان هناك بعض من القواد إنما كانوا يقومون بقيادة الجيش نيابة عن الملك، ومن ثم فقد حملوا لقب قائد الجيش.

تجدر الإشارة إلى إنه في عهد الدولة الوسطى، ظهر لقب قائد الصدام وقائد الجنود الجدد. وقد عين على رأسه قوات الهجوم جميعها مسجل الجيش.  وخلال هذه الفترة ظهرت ألقاب أخرى من بينها، كاتم أسرار الملك في الجيش. وقد تعرضت مصر في عهد الدولة الوسطى إلى غزو من طرف الهكسوس وكان تحرير مصر من هؤلاء الغزاة بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت الحماس في قلوبهم، وقد ترتب عن هذا الغزو مشاركة كل الرجال القادرين على الحرب في حمل السلاح ضد الغزاة وتطهير أرض الكنانة من دنسهم.

وقد ساهمت مجموعة من العوامل التي جعلت هذه الفترة فترة وطنية شعبية خالصة. وهذه العوامل كالتالي: الرغبة في الانتقام، والاعتزاز بتحرير البلاد، وزاد عليها حب الغنيمة.

أما في عهد الدولة الحديثة فقد تكون الجيش من قسمين رئيسين المشاة والعربات الحربية وكان سلاح المشاة دعامة أساسية له ذلك أن جنودهم الذين يحتلون الأراضي المفتوحة ويقيمون الحصون لحراسة الممرات المؤدية إلى الوطن وتلك التي تؤدي إلى موقع القوات، كما تجدر الإشارة إلى أن هناك تشكيلات متعددة من المشاة إذ نجد المشاة العادية، وهناك تشكيلات مشاة القوات الخاصة فضلا عن القوات الأجنبية، بالإضافة إلى تشكيلات الجيش السرية.

ثم نجد قائد السرية أو حامل اللواء. ثم أركان حرب السرية ثم كاتبها وهناك ما يسمى الكتيبة، كما كان هناك سلاح العربات أو المركبات وهناك من يقول أن هذا السلاح ظهر مع "تحموتمس الثالث".  وكان لكل عربة قائد ومقاتل يقود الخيل وآخر يرمي السهام من قوسه، وقد عرف سائق عربة فرعون بالسائق الأول لجلالته، ويشرف عليه ضابط قديم يسمى، قائد الاصطبلى الملكي، يعاونه ضباط ومدربون لهم خبرة بالخيول، ويعرفون باسم "رؤساء الاصطبل".

كانت هذه العربات الحربية تتقدم الجيش خلال المعارك ثم تتبعها المشاة. وكان الفرعون هو القائد الأعلى للجيوش من خلال تدبير وإدارة المعارك الحربية، كما أشرفوا كذلك على توجيه فرق المركبات في المعركة، بالإضافة إلى إدارة المعارك البحرية من الأساطيل الملكية أثناء التحركات البحرية الهامة، إلا أنه في أغلب الحالات يقوم الفرعون بتكليف ولى العهد في ذلك كما كان الوزير غالبا يقوم بوظيفة الحرب وكانت فرق عسكرية أخرى مكلفة بالتجنيد وحفظ سجلات المعارك الحربية. فضلا عن بعض الوظائف الإدارية، وكان على رأس هؤلاء الكتاب رئيس كتاب الجيش والكاتب الملكي للتجنيد، في حين قام ضباط قادة وأركان حربهم بالرقابة الإدارية، وهناك القوات الخاصة كان افردها يتميزون بصغر السن ويتلقون تدريبات تؤهلهم لخوض المعارك الخاصة، وبالتالي يمكن القول بأن ضباط الجيش قاموا بعدة وظائف من بينها التموين والحسابات والسجلات والمواصلات وكافة الشؤون الإدارية، وكان من بينهم رجال المخابرات وجهاز خاص للتجسس على تحركات العدو. وقد استعمل الجيش المصري أنداك مجموعة من الأدوات من بينها الهرواة وهو السلاح الأكثر شيوعا آنذاك والفؤوس.

وفي عهد الدولة المصرية القديمة كانت الجيوش مسلحون بالفؤوس للقتال والعصي والسهام والمقالع والخنجر، فضلا عن استخدام الحراب الطويلة في حالة الالتحام عن قرب، ولم يزد تسلح الجنود في عهد الدولة الوسطى عن ذلك كثيرا، غير أن بعض الجنود إنما كانوا يكتفون فقط بمقامع، وربما استعمل الخنجر في مختلف العصور وقد تغير شكل الفأس النحاسية في الدولة الوسطى حتى أصبحت تبدو وكأنها السلاح الذي تطور إلى السيف المنحنى، والمعروف باسم "خبش" وهو على شكل المنجل، وكان جنود بعض الإمارات، كإمارة السيوط، إنما كانت تتسلح بالتروس والرماح أو الحراب، وهكذا وقد عثر على مجموعة من العصي والأقواس ورؤوس الدبابيس التي كانت تستخدم في الطقوس بكثرة في عصر الدولة الوسطى.

في حين اهتم القوم في الدولة الحديثة بالأسلحة الدفاعية، فقد ظهر استخدام الدرع أو قميص الحرب وقاية من سلاح العدو، وكان يصنع من الجلد أو البرونز، هذا فضلا عن أن بعض الجنود إنما كانوا يتسلحون بفأس كبير ورمح معا.

كما اعتمد الجيش على العربة كثيرا في عهد الدولة الحديثة، واهتم المصريون بالحصون في عهد الدولة القديمة، وتدل البقايا الأثرية على وجود هذه الحصون عند الحدود الجنوبية، وفي عهد الدولة الوسطى وجدت الحصون على حدود الدلتا الشرقية، كما ثم بناء سلسلة من القلاع في بلاد النوبة، لحماية الممتلكات المصرية هناك، وقد بلغ عدد الحصون بلاد النوبة حوالي ثلاثة عشر قلعة.

أما في عهد الدولة الحديثة فلم تكن الحاجة تدعو في أول الأمر لإنشاء مثل هذه الحصون، وربما استعاضوا عنها بإنشاء مدن عسكرية في الدلتا، كمدينة هربيك العسكرية التي أقامها رمسيس الثاني هناك .عموما يمكن القول بأن فئة الجيوش هاته تعددت أصنافها وأدوارها وتنوع عتادها العسكري ويبقى الهدف الرئيس الملقاة على عاتق القادة العسكريين أنداك هو أن، يقودوا قواتهم من نصر إلى نصر، فتراهم وهم يقدمون إلى الآلهة ثروات البلاد المفتوحة أو يتقبلون الجزية من زعماء الدول المجاورة المغلوبة، يوزعون الهدايا السخية على أفضل خدام الدولة في احتفالات مهيبة.

منحت للجنود امتيازات، وتقديرا لجهودهم فقد ثم منحهم ألقاب تشجيعية وتشريفية وأوسمة والترقي في الدرجات، ومنحت لهم أراضي زراعية، مهمة وأعفوا من الضرائب. هنا نقرأ في خطاب رمسيس الثاني لجنده في معركة قاديس: "لقد كنتم من قبل فقراء فأغنيتكم بفضلى المستمر، وأقمت الابن منكم على أملاك أبيه وتجاوزت عن ضرائبكم". وهكذا نستنتج أن الجيش المصري خلال هذه الفترة من التاريخ ساهم بشكل كبير في الدفاع عن بلد بكل تفاني واعتزاز.

طبقة العمال:

إن الفرق بين العامل والحرفي ذلك أن العامل هو الفرد الذي يبيع قوة عمله في السوق مقابل أجر، بخلاف الحرفي الذي يكون تابعا لرب الورشة وينجز الخدمة تحت طلب الزبون. فالتميز بينهم لا يرتكز على وجود مؤسسات تجمع كل فئة على حدة وإنما كانت بعض المهن تساعد، أكثر من غيرها، على إبراز مهارات أصحابها وقدراتهم، فإن عملوا مثلا في بلاط الملك، أو في ورشة تكون فرصتهم في التميز أكبر وأعظم، وتكون الترقية من نصيبهم مكافأة على اجتهادهم. وقد اشتغل الماهرون منهم في المصانع الفرعونية والأعمال العمرانية الكبرى. ولن يتأتى لهم هذا إلا بعد تلقيهم تدريبا يسمح لهم بصقل مهاراتهم وبالتالي الترقي في السلم الوظيفي وهنا نستحضر تجربة أحد العمال الذي يطلق عنه "نخبو"، والذي قال: "لقد بدأت عملي عند جلالته كبناء عادي، ثم عينني جلالته مفتشا على البنائين، فمشرف عليهم، ثم رئيسا للمجموعة، ثم رقاني جلالته إلى نجار وبناء تابع للملك، ثم عينني صديقا أوحد ... وتوليت أعمال الكتابة وأحمل لوحة الكتابة وأشرف على كافة الممتلكات، ثم إدارة أملاكه الجنائزية على امتداد عشرين سنة، وعينني صاحب الجلالة مديرا، كما كلفني بتحديد مسار قناة حورس بحميس وأشرفت على أعمال حفرها".

وبهذا يمكن القول على أن العمال الذين منحت لهم الفرصة للعمل مع الملك كانت هذه بمثابة فرصة العمر، حيث استغلوها بشكل جيد،" فتدرجوا في السلم الوظيفي درجة درجة، وامتدت إنشاءاته لتشمل المباني وأعمال التجار وشق القنوات، ويحيط ترقيته بهالة من التفخيم والتعظيم.

طبقة الحرفيون:

اغلبهم قد اشتغلوا في دكاكين صغرى، واهتموا بصنع الأدوات والأواني المستعملة في الحياة اليومية لهم. واشتغل الماهرون منهم في المصانع الفرعونية والأعمال العمرانية الكبرى، وكان دورهم مرتبط بإشراف الدولة الفرعونية على الحركة التجارية، وكان كبار التجار خاضعين للمراقبة ويلتزمون بتسويق بضائع معينة.

طبقة الفلاحون:

الذين يشكلون أغلبية السكان، وكانوا ملزمين بالعمل في أراضي الفرعون والكهنة والتي تعج بالخيرات ويقوم الفلاحون بريها بعناية فائقة خاصة باعتماد تقنيات الشادوف، وقاموا برعي المواشي وحراستها وصيد العصافير بواسطة الشباك في المناطق الرطبة، لتنقل بعد ذلك إلى المزارع بغرض تربيتها، ومن بين الأنشطة التي قام بها الفلاحون نجد "جمع المحاصيل الزراعية كالحبوب والخضروات والفواكه، وبعد جمع هذه المحاصيل يقوم الفلاحون بدرسها وينتظر الكتبة وصول المحاصيل الزراعية فيكيلونها قبل تخزينها.

وكان الفلاحون مطالبين بدفع الضرائب وعندما يطالبهم المسؤولون بذلك، يجد الديدان ابتلعت نصف المحصول والتهم فرس النهر ما تبقى وتغطي الفئران الحقول وتهاجمها أسراب الجراد، وتلتهم الأغنام العشب والطيور كذلك. فيدفع الفلاح إلى الفاقة والإملاق (الفقر)، وما تبقى من طحين داخل الجرن، فهو لاستهلاك الفلاح الخاص، وهو معرض لسطو اللصوص، ولئن ينخفض سعره في السوق لقد نفقت البقرتان من شدة الإعياء وكثرة العمل في الدرس والحرث ويرسو الكاتب بقاربه على شاطئ النهر، ويحضر تسجيل المحصول وبمعيته الحجاب الذين يحملون العصي، والنوبيون الذين يحملون جريد النخيل ويقولون أعطينا القمح، ولكن أين القمح؟ فيوسع الفلاح ضربا ثم يشدون وثاقه ويلقون به في البئر ويغمرونه بالماء ورأسه إلى أسفل. كما توثق زوجته في حضوره ويربط أولاده.

بهذا نستنتج من هذه المقولة بأن الفلاح المصري عاش أوضاعا صعبة تجلت في ضعف المحصول الزراعي وزاد في تأزم وضعيته الضرائب المفروضة عليه والمعاملة السيئة التي كان يتعرض لها من طرف الكتاب وأعوانهم وهي صورة قاتمة وسليبة للكتاب.

طبقة العبيد:

تكاثر عددهم عن طريق أسواق الرقيق وأسرى الحروب، واجبروا على العمل في الحقول وأذن لهم بالزواج وأعطيت لهم الأراضي ليزرعوها مقابل دفع الضرائب، وهم أدني طبقات المجتمع المصري، يكلفون بأعمال السخرة وساهموا في بناء الأهرامات.

دور المرأة في المجتمع الفرعوني

كانت للمرأة المصرية مكانة متميزة في الأسرة والمجتمع، فكانت الزوجة الشرعية هي الزوجة المحبوبة ويطلق عليها "نبت بر" أي سيدة المنزل، حيث تقوم على رعاية منزلها وتدبير أموره وتوفير سبل الراحة فيه، وتبالغ في إكرام زوجها وتفيض حبا وحنانا على أبنائها، وكانت علاقتها بزوجها في جميع العصور مبنية على الإخلاص والوفاء. وتعد المرأة المصرية العادية ركنا مهما في جميع الشؤون المنزلية فتستيقظ في الصباح الباكر لإعداد الطعام لإفطار أبنائها وزوجها، كما كانت الزوجة تقوم على تنظيم بيتها وهيئة السعادة والرفاهية لزوجها والعناية بتربية أبنائها وتقوم بغسل الملابس وجلب الماء معها وتقوم بإعداد الخبز. وتزاول مهنة الغزل والنسيج ومرافقة زوجها ومعها أبناءها في رحلات الصيد.

وقد وصلت المرأة الفرعونية إلى مركز ملحوظ في الدولة، فهناك نصب تذكاري خاصة بالسيدة "بيسيشت" من عصر الدولة القديمة يبين أنها كانت "مديرة الأطباء، وهي الوحيدة المعروفة في مصر القديمة وهذا اللقب يلقى ضوءا على تطور مكانة المرأة في هذا العصر.

وعلى المستوى الثقافي كانت للمرأة المصرية خزائن للكتب الخاصة. وعلى المستوى الديني فقد كانت بعض النساء يتفرغن لخدمة المعبد، كما يفعل الرجال وظهرت بعض النسوة في الدولة القديمة اللواتي يتباهين بأنهن كاهنات للآلهة، وربما كن من سيدات المجتمع أو مجرد بنات كهنة للآلهة ورثن وظائف أباءهن، أما ظهور المرأة كمغنية أو موسيقية فأمر أكثر شيوعا وكانت تمتلك الضياع الضخمة وتشرف على موظفين يخصونها وتتخذ مجموعة من الألقاب وتقدم القرابين.

خاتمة

من خلال ما تناولناه سابقا نستشف أن المجتمع الفرعوني يتميز بنوع من التراتبية في طبقاته إذ نجد في قمة الهرم الفرعون وعائلته ثم يليه الكتاب فالكهنة ثم باقي الفئات، وهذا التنظيم جعل من الفرعون هو صاحب أغلب القرارات في مجتمعه وبالتالي سيادة النظام السياسي التيوقراطي في بلاد مصر القديمة، و يعد النيل من بين أهم عوامل التي ساهمت في توافد عدد من القبائل على مصر القديمة وبروز هذا النظام من خلال وصول بعض الأشخاص الوافدين على مصر إلى رأس هرم المجتمع المصري.


المراجع:

  • طه باقر مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة: حضارة وادي النيل وبعض الحضارات القديمة فارس الإغريق الرومان؛
  • موسوعة الحضارة المصرية القديمة، دكتور سمير أديب؛
  • الناس والحياة في مصر القديمة، دومينيك فالبيل، ترجمة ماهر. ومراجعة زكية طبوزادة؛
  • مصر الفرعونية، موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام 333 قبل الميلاد، أحمد فخري؛
  • الحياة الاجتماعية في مصر، سير و.م فلندرز، ترجمة محمد حسن جوهر وعبد المنعم عبد الحليم؛
  • أم الحضارات ملامح عامة لأول حضارة صنعها الإنسان، مختار السوسي، تقديم الدكتور محمد إبراهيم بكر؛
  • معالم حضارات العالم القديم للدكتور، نعيم فرح؛
  • كتاب التاريخ السنة الأولى إعدادي 1988، المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية؛
  • رحاب الاجتماعيات السنة الأولى من التعليم الثانوي الإعدادي.

تعليقات