مقدمة
الإسقاط الميركاتوري (Mercator) هو إسقاط خرائطي أسطواني مطابقٍ للشكل (conformal) قدّمه الجغرافي ورسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس ميركاتور عام 1569. يتميز هذا الإسقاط بتحويل المسارات ذات البوصلة الثابتة (المعروفة بـ rhumb lines أو loxodromes) إلى خطوط مستقيمة على الخريطة، لذلك صار معيارًا ملاحيًا في القرون التالية. لكن عند تطبيقه على خرائط العالم يبالِغ في تكبير المساحات البعيدة عن خط الاستواء، فتصبح جرينلاند والقُطبان أكبر بكثير مما هما عليه بالنسبة للقارات القريبة من خط الاستواء.
لمحة تاريخية موجزة
ظهرت قبل ميركاتور خرائط وأفكار قد تكون أقرب إلى استخدامات مماثلة (خرائط البورتولان والعشرات من المخطوطات). ثمة من افترض وجود أصول قديمة، لكن مثل هذه الادعاءات غالبًا ما تفتقر إلى دليل حاسم.
في بدايات القرن السادس عشر نُشِرت خرائط صغيرة (مثل خرائط إرهارد إتزلوب) ذات سمات قريبة، وشرح الرياضيون البرتغاليون مثل بيدرو نونيس مفهوم خطوط البوصلة الثابتة وطرائق استعمالها.
نَشَر ميركاتور في 1569 خريطة عالمية كبيرة وشرح أنها مُعدّة لاستعمال البحارة. المعادلات الدقيقة لبناء الإسقاط نُشِرت لاحقًا (على نحو بارز من قبل إدوارد رايت أواخر القرن السادس عشر)، لكن ميركاتور كان واضحًا في هدفه: تسهيل الملاحة بتثبيت اتجاهات البوصلة على الخريطة.
ما هو الإسقاط الميركاتوري؟ (بشكل مبسّط)
تخيَّل لفافة أو أسطوانة تُحاط بكوكب الأرض وتلامس القطر عند خط الاستواء. تُسقط النقاط على سطح الكرة إلى الأسطوانة بطريقة تحافظ على الزوايا الصغيرة — ثم تُفرد الأسطوانة لتصبح ورقة مسطحة. في هذا التمثيل تكون خطوط الطول (الميريديان) وخطوط العرض على الخريطة مستقيمة ومُتعامدة، ويُرمَز لذلك بشبكة من مستطيلات. الميزة العملية الأساسية: مسارات البوصلة الثابتة تظهر على الخريطة كخطوط مستقيمة، وهو ما يجعل رسم مسار بمقاس بوصلة ثابِتًا أمراً سهلاً للبحّارة.
تشوه الأحجام (المشكلة المعروفة)
بسبب ازدياد مقياس الخريطة كلما ابتعدنا عن خط الاستواء، تُبالِغ خريطة ميركاتور في أحجام المناطق العالية العرضية. أمثلة شائعة توضح ذلك:
- تظهر جرينلاند وَفق الميركاتور قريبة في الحجم من إفريقيا، بينما في الواقع إفريقيا أكبر بنحو 14 مرة.
- أستراليا أوسع بكثير من ألاسكا؛ لكن على خريطة ميركاتور قد يبدوان متقاربين.
- جزيرة مدغشقر أكبر من بريطانيا بأكثر من مرتين، لكن ميل الخريطة يجعل المقارنة مضلِّلة بصريًا.
لهذا السبب اعتُبِر الميركاتور غير مناسب لخرائط العالم العامة — إذ يعطي انطباعًا مبالغًا فيه عن البلدان البعيدة عن خط الاستواء ويقلل بصريًا من أهمية المناطق الاستوائية.
الانتشار والاستخدام الحديث
التاريخيًّا استُخدِم الميركاتور على نطاق واسع في الملاحة البحرية، وبعد حلّ مشاكل تحديد الطول والاختلافات المغناطيسية (القرن الثامن عشر) أصبح عمليًا أكثر.
في القرن التاسع عشر والقرن العشرين تعرّض لانتقادات عديدة؛ دور الناشرين تقلّص في استعماله لخرائط العالم العامة.
مع ظهور الخرائط على الويب عاد الإسقاط إلى الاستخدام الواسع في صورة Web Mercator، وهو نمط مُكيّف يسهل العرض القابل للتكبير/التصغير (tiling) لخدمات الخرائط على الإنترنت (مثل خرائط الطرق والتطبيقات التفاعلية). يقتصر عرض بعض نظم الويب على خطوط عرض تقارب ±85.05° لتجنُّب التفجّر الرياضي عند القطبين.
الأنماط الأخرى من الإسقاط الميركاتوري
المناظر الاعتيادية (Normal): محور الأسطوانة موازي لمحور دوران الأرض (أكثر استخدامًا).
المناظر العرضيّة (Transverse): تُدوَر الأسطوانة بحيث يكون خط اتصالها مع الكرة عند أحد الميريديانين؛ يُستخدم كثيرًا في نظم الإحداثيات الوطنية (مثل نظام UTM).
المناظر المائلة (Oblique): تُميل الأسطوانة بزاوية اختيارية لتقليل التشوه على مساحات محددة شمال-جنوب أو في مناطق مائلة.
لماذا هو مفيد للملاحة؟
لأن أي مسار يبقى عند زاوية ثابتة بالنسبة للشمال (خط ذو اتجاه ثابت) يُرسم على خريطة ميركاتور كخط مستقيم، ويمكن للبحّار أن يحافظ على ذلك الاتجاه باستخدام البوصلة دون الحاجة لتصحيحات مستمرة. بهذا تبقى عملية الإبحار أبسط، وإن لم تكن دائمًا الطريق الأقصر (التي تكون على شكل قوس دائرة عظمى).
خاتمة
الإسقاط الميركاتوري واحد من أهم الاختراعات في تاريخ رسم الخرائط، فقد ساهم بشكل كبير في تطور الملاحة والرحلات البحرية عبر القرون. لكنه في المقابل أظهر أن لكل إسقاط خرائطي مزاياه وعيوبه؛ فما يخدم أغراض الملاحة لا يخدم بالضرورة أغراض التعليم أو تمثيل العالم بشكل منصف. لذلك من الضروري إدراك هذه الفروق عند قراءة الخرائط أو تدريسها، حتى لا نقع في فخ الصور المشوهة للعالم التي قد تؤثر على تصوراتنا الجغرافية والثقافية.