أخر الاخبار

حروب الردة في عهد الخليفة أبي بكر الصديق (23 - 22 هجرية)

تقديم:

يواجه المؤرخ صعوبة في استنباط الأسباب الدينية والسياسية والاجتماعية لحروب الردة، نظرا لقلة المادة التاريخية المتعلقة بظروفها وحيثياتها، رغم أنها شكلت تحديا كبيرا لهيبة الدولة الإسلامية الناشئة وأول اختبار للمجتمع الإسلامي الجديد خاصة وأن الدين لازال لم يتجدر إلا بين سكان المدينة ومكة والطائف والقبائل المجاورة، في المقابل تفيد المصادر الاتساع الكبير لحركة الردة، بحيث خرجت الأغلبية الساحقة ولم يبقى مواليا سوى نواة صغيرة تتألف من قبائل قريش وحلفائهم وثقيف في الطائف، خاصة وأن سياسة التوحيد لم تكتمل ويتحقق الإقناع بالعقيدة الإسلامية.

حروب الردة في عهد الخليفة أبي بكر الصديق  (23 - 22 هجرية) | مدونة الاجتماعيات
خريطة شبه الجزيرة العربية مع القبائل في حوالي سنة 600م.

عدد من القبائل كانت تخفي موقفها المتربص من الإسلام رغم دخولها في الدين الجديد، بحيث ربطوا الإسلام بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته تعني الخروج عن الدين الإسلامي، وتشكل المرتدون من أربع فئات:

الفئة الأولى: اعترضت عن نتائج السقيفة وتولية أبي بكر الصديق لكنها لم ترتد عن الإسلام؛

الفئة الثانية: هم الذين ارتدوا عن الإسلام واستقلوا عنه؛

الفئة الثالثة: هي التي رفضت دفع الزكاة للخليفة بوصفها نوعا من التبعية والتقييد لحرية استقلال القبائل؛

الفئة الرابعة: مثلها التابعين للزعماء القبليين المدعين للنبوة.

ساهم هذا الانقسام في التأجيج للأسباب التي ساهمت في انطلاق حروب الردة حسب ما أجمعت عليه الروايات التاريخية:

أسباب حروب الردة:

الإمتناع عن أداء واجب الزكاة:

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتولي أبي بكر الصديق الخلافة، بدأ ممثلي بعض القبائل (أسد، غضفان،..) بإرسال وفوذ عنهم للمطالبة بالإعفاء من الزكاة، ولم يكن لهم من الأمر شيء وكانت ردة فعل الخليفة الرفض التام، فأعلنوا بذلك شأنهم شأن باقي القبائل ارتدادهم عن الدين الجديد، يقول القضاعي في كتاب عيون المعارف "وارتدت قبائل العرب إلا قريشا وثقيفا ومنعوا الزكاة". وعبر الخليفة أبي بكر الصديق عن موقفه بكل حزم بقوله :"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال ولو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه".

ادعاء النبوة:

في ظل غياب التوحيد الكامل لشبه الجزيرة العربية ككل تحت راية الدين الإسلامي، بعد وفاة النبي (ص) اتخذت العديد من القبائل موقفا سياسيا معاديا من قريش التي تزعمت في نظرها المسلمين وقبلت بالخلافة لأبي بكر الصديق، فبرز تنافس العصبيات القبلية وظهر المتنبؤون في أنحاء الجزيرة العربية كما سبق وأن حدث في حياة النبي عقب توحيد فتح مكة والمدينة وهم الأسود بن كعب العنسي في اليمن، و ثمامة بن حبيب الحنفي في اليمامة الملقب بمسيلمة الكذاب وطليحة بن خويلد الأسدي في شمال شرق الحجاز وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية.

لكن سرعان ما أعلن عن خبر وفاة النبي حتى استغلوا الفرصة مدعين نبوتهم ومحتذين بسيرة النبي ومتشبهين بها لتحقيق تطلعاتهم، وفي ظل هذا الاضطراب بدأ استقطاب الناس بمظاهر يتخذونها آيات صدقهم.

الأسود بن كعب بن عوف العنسي:

"كان الأسود بن كعب بن عوف العنسي قد تكهن وادعى النبوة، فاتبعه عنس وقوم من غير عنس، وسمى نفسه رحمان اليمن، كما تسمى مسيلمة رحمان اليمامة، وكان له حمار معلم، يقول له: "اسجد لربك فيسجد، و يقول ابرك فيبرك، فسمي ذا الحمار".

تشجع في الجهر بدعوته، فوفاته صلى الله عليه وسلم كانت بداية للحركات الإنفصالية، فانطلق الأسود العنسي في مراسلة العمال المسلمين: "أيها المتودون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به وأنتم ما انتم عليه. وهو ما توافقت عليه رغبة الأعراب في رفضهم لأداء الزكاة، فاستمال الناس بعباراته ولقب نفسه رحمان اليمامة، مستندا على القومية القبلية في الانتصار وطرد الولاة المسلمين وتوسيع الوحدات القبلية المخلصة لدعوته.

الحنكة السياسية والعسكرية لأبي بكر الصديق:

تظهر جليا بوادر العزم والشجاعة في تنظيم أبي بكر الصديق لمواجهة هجوم القبائل المرتدة وتبصره بنوايا الوفذ الذي أتى ليساوموه على عدم دفع الزكاة، بحيث استبق ما قد يحصل بحشد القوى وتدعيم دفاعات المدينة، ما أفشل محاولة الهجوم التي شنها المحاصرون من عبس وذبيان وباقي الأتباع الذين ارتدوا، فشكلت بوادر الانتصار الإسلامي في البداية دافعا لتثبيت الثقة في الدين وتراجع البعض عن موقفهم مقابل تعنت البعض الآخر من المرتدين.

شرع الخليفة أبي بكر في تجهيز الجيوش للقضاء على المرتدين وفق توجه ينبني على درجة إلحاح القبائل في ردتها، فخصص ثمانية ألوية للجنوب نظرا لتركز غالبية المتنبئين والمرتدين فيها، ووجه ثلاثة ألوية للشمال، مع احتفاظه بقوة عسكرية لحماية المدينة، بحيث كانت الخطوة الأولى في السياسة الحكيمة للخليفة، دعوة الناس وهديهم للتراجع عن ردتهم.

ثم في الخطوة الثانية من سياسته إعطاء التوجيهات والأوامر بقمع ثورات القبائل وصد كل الأخطار التي تهدد دولة الإسلام، ومن أهم المواجهات التي تزعمها القادة لتصفية جيوب التمرد.

معركة بزاخة

دارت المعركة بين طليحة الأسدي ضد خالد بن الوليد، وخصص له الخليفة جيشا بأربعة آلاف مقاتل، لكن الإلتفاف القبلي حول طليحة أكسبه اليقين بأن الانتصار حليفه واشتد عزمه على القتال، إلا أن التوجيهات الحكيمة التي أصدرها أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد، جعلت من طليحة معرضا للهزيمة والضعف رغم توفر عدد مقاتليه ووفرة سلاحه، لتكون أرض المعركة التي اتخذها الخليفة قاعدة لإدارة العمليات العسكرية حاسما لتأكيد انتصار المسلمين.

معركة عقرباء:

جسدت هذه المعركة واقع القضاء على ردة بني حنيفة التي كان الوضع فيها أشد خطورة وتطلب تدخل قادة الجيش عكرمة بن أبي جهل و سرحبيل بن حبشة ثم خالد بن الوليد الذي تم توجيهه من طرف الخليفة بخطة عسكرية دقيقة، بحيث أبانت أحداث المعركة عن روح قتالية شديدة التنافس لتحقيق النصر، بحيث تكبد بنو حنيفة باليمامة خسارة كبيرة في عدد القتلى لينتهي النزال إلى عقد الصلح وتوبتهم عن الردة. والقضاء على الردة في البحرين وفي اليمن وفي كندة وحضرموت... ووفقا لآداب الإسلام في الجهاد وعودة المرتدين وإيمانا بأن وحدة القيادة في الحرب هي الطريق لتحقيق النصر وتثبيت قوة الإسلام وتسامحه.

نتائج حروب الردة:

شكلت حروب الردة بمثابة جسر عبر العرب عليه إلى خارج الجزيرة، كما كانت أول تدريب عسكري للعرب المسلمين تدرجا من القيادات الصغيرة إلى القيادات ذات النطاق الواسع وأكثر تنظيما بدءا بالحشد والتعبئة إلى التحركات والسير والإلتحام ثم الحصار والقدرة على تحقيق الانتصار والسمو والإيمان بالهدف.

أبرزت قيادات عسكرية مسلمين وأكسبتهم خبرة عسكرية عالية في هذه الحروب الشرسة وأبرز هؤلاء القادات خالد بن الوليد، سعد بن أبي وقاص، عمرو بن العاص... وقد مهدت حروب الردة الطريق أمام المسلمين لخوض معارك أكبر في بلاد الشام مع الروم وفي العراق مع فارس وهو ما أكدته معركة القادسية واليرموك فيما بعد، فقد كانت حروب الردة بمثابة جسر عبر العرب عليه إلى خارج الجزيرة . كما أكسبت المسلمين الثقة الكبيرة بأنفسهم بعد وفاة القائد الأعظم النبي، فقد منحتهم هذه الثقة التفوق النفسي المشبع بالإيمان، خاصة في ظل قلة العدة والعتاد مقابل قوى كبرى تتمتع بقدرات مالية وعددية...، تبيان معالم الوحدة السياسية والحنكة في التنظيم بتعبئة كل الطاقات العربية وحشدها في الأعمال العسكرية وفق خطط محكمة، أدت إلى سيطرة المسلمين على كافة الجزيرة العربية لنشر الدين الإسلامي والدفاع عن وجوده وتثبيته بين الناس كدافع رئيسي في توسيع حدود الفتوحات الإسلامية.

خلاصة:

شكل عهد الخليفة أبي بكر الصديق عهد جمع شمل المسلمين في ظرف وجيز من توطيد مكتسبات العهد النبوي بتوحيد الجزيرة العربية، ثم اكتسح العراق الفارسي والشام البيزنطي دفعة واحدة، وذلك ما استكمله و وطده الخليفة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه.


تعليقات