أخر الاخبار

التاريخ والذاكرة: أية علاقة؟

 تقديم:

كثر الحديث في العقود الأخيرة بين علماء الفلسفة والتاريخ والاجتماع عن الذاكرة وصلتها بالتاريخ. فهل هما من طينة واحدة لعنايتهما برفع النقاب عن الماضي على اعتبار أن الذكريات إنما هي وقوف على التاريخ بالتقسيط، وأن التاريخ إنما هو وقوف على الذكريات بالإجمال؟ أم هما جنسين مختلفين؟ ولولا ذلك لما وسما باسمين متباينين في معظم اللغات.

فالذكرى إحساس ذاتي وانفعال قد يخرج بهما الخيال إلى ما لا يمت إلى الواقع بصلة. بينما التاريخ صناعة مضبوطة الأسلوب والقواعد غاية أربابها ذكر ما جرى واستخراج الوقائع ومسبباتها. وإن دل تعارض هذين القولين على شيء، فإنما يدل على قيام صلات الذاكرة بالتاريخ على بعض الألغاز التي تستلزم شيئا من البحث والتحليل.

  • فما مفهومي التاريخ والذاكرة؟ وما الفرق بينهما؟ وما علاقتهما؟

تعريف مفهومي الذاكرة والتاريخ

مفهوم الذاكرة

يحيل مفهوم الذاكرة إلى آليات تمثل الماضي واستحضاره، هذا التمثل الاسترجاعي لنسق الذهنيات والتصورات الرمزية يستدعي حفرا شاملا في الذاكرة البشرية، كإنتاج اجتماعي وسياسي وثقافي. فالذاكرة بتوصيف من المؤرخ الفرنسي بيير نورا تمثل ما تبقى من الماضي في أذهان الناس، أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي فهي موروث ذهني يختزل مسيرة من الذكريات الفردية و الجماعية التي تغدي التمثلات المجتمعية إنها مجرد صورة عن ماضي وقع استحضاره، اختزاله، تضخيمه، تقزيمه، تبرريه، وفق حاجيات اللحظة وغالبا ما تغلب عليها صفة "القدسية" و"الرمزية" كصورة بعض الشخصيات السياسية والدينية، صورة قد تمتزج فيها الصورة بالخيال و عليه تتميز الذاكرة بتعدد المرجعيات، بتعدد الافراد، الجماعات، المؤسسات… بالشفهية والانتقائية بهدف تخليد الماضي والاحتفال بالحاضر كنسق استمراري عبر ممارسة الحكي و التذكر. فالشهادة سواء كانت فردية أو جماعية تبقى ذات سمات ذاتية أو انفعالية رمزية تفتقر إلى جهاز مفاهيمي و تعمل بكيفية إرادية أولا إرادية على تضخيم/تقزيم الوقائع وفق حاجيات اللحظة ومن تم تبقى "صورة عن ماض متخيل وقع استحضاره".

مفهوم التاريخ

التاريخ من حيث هو اشتغال مفاهيمي موضوعاتي وإشكالي يقوم على المعالجة المنهجية، على ترتيب الماضي بعبارة لوسيان فيفر على عملية بناء وإعادة بناء، كتابة وإعادة كتابة، صياغة وإعادة صياغة لهذا الماضي انطلاقا من سلسلة عمليات منهجية متداخلة تشتغل بالتحليل والتأويل والنقد، هذا الترتيب أو البناء لا يتأتى إلا بجهد متعدد اللحظات. لحظة إقامة البرهان الوثائقي لحظة التفسير والفهم ولحظة الكتابة، فالتاريخ كما قال بولفين هو العلم الاجتماعي الوحيد الذي يتحكم فيه صاحب الاختصاص وحده لأن التاريخ هو تناول متعدد، فبالإضافة إلى التناول الجامعي التخصص الاحترافي هناك تناول مدرسي من حيث استعمالات الماضي لدى عامة الناس.

الفرق بين التاريخ والذاكرة

تقترن الذاكرة التاريخية أو الشهادة بتعبير بيير نورا بإعادة بناء للخيال فالذاكرة تحكمها الغائية، وغالبا ما تخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية، من أجل بناء التجانس والالتحام، والذاكرة ذاكرتان، واحدة تتصور وأخرى تتكرر والقول في الأولى هي التي تمكننا من ترداد ما نحفظه من أبيات الشعر مثلا. والثانية هي الذاكرة المتصورة المبنية على التلقائية لذلك فإن الذكريات حسب برغسون "مبنية على التشرد بالأساس ولا تتبلور إلا بالصدفة".

إن الذاكرة تعانق الوقائع ذات صلة بالموضوع، بينما يكون النسيان مصير الأحداث غير الدالة، غير أنه تؤثر في الذاكرة سيرورات فعالة تتمثل بالخصوص في: الصمت، الرقابة، الطمس، فقدان الذاكرة، الإنكار، الكذب.

بينما الكتابة التاريخية تقوم على الموضوعية والتحليل والنقد، فالقارئ ينتظر من المؤرخ فك تعقيدات الماضي سواء كان قريبا أو بعيدا، ومساءلة الماضي والسعي إلى فهمه، هذا الفهم يقوم على النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء، بعيدا عن أشكال الحكم المسبقة، لقد سبق لبول ريكور أن تحدث على أن "القاضي هو الذي يحاكم و يعاقب، والمواطن هو الذي يناضل من أجل النسيان، ومن أجل إنصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة".

علاقة التاريخ والذاكرة

يلاحظ ان الصلة بين التاريخ والذاكرة تعود لفترات قديمة جدا. وإذا كان التاريخ قد ولد في رحم الذاكرة خلال ظهور الكتابة واستعمالها، فيلاحظ أنه ظل متأثرا بها لمدة طويلة وكان جزءا منها، وكان يغلب على الكتابة التاريخية إما الشهادة، بحيث كان المِؤرخون يصفون ما شهدوه وحضروه أو سمعوه، أو السرد، حيث كان عبارة عن كتابة أدبية. لكنه بدأ من العصور الحديثة ، وخاصة خلال القرن التاسع عشر وإلى اليوم يستقل عن الذاكرة وينافسها في استعادة الماضي.

غير أن هذا الاستقلال المعرفي عن الذاكرة، وتحولها إلى أحد مواضيعه لا يعني بالضرورة أن العلاقة بينهما قد حسمت نهائيا واتضحت بصفة مطلقة، بل يمكن القول أنه ليس بينهما سدا منيعا. ذلك أن الاختلاف بينهما يصل إلى حده الأقصى حيث يكون الماضي قريبا من

الحاضر. وهذا ما نلاحظه مع الحضور الكثيف والمتزايد للذاكرة في المشهد العام للمجتمعات البشرية خلال القرن العشرين وإلى يومنا هذا. كما اختلف المؤلفون في العلاقات التي يقيمونها مع الذاكرة. ففي وقتنا الحاضر، أصبح كل تاريخ يدخل في نطاق المعرفة غير المباشرة، وهي معرفة تتعارض مع الذاكرة من الناحية المبدئية. لكن المسافة بين المعرفتين تتفاوت كثيرا من حالة إلى أخرى. فالتاريخ الجامعي يقيم مسافة أكبر من الذاكرة حين يبتعد عن قضايا الحاضر، أو عن المجموعات التي ينتمي إليها المؤرخ، وعن أمته بشكل خاص. وعلى عكس ذلك، فحين يتعلق الأمر بتاريخ الزمن الحاضر أو بماض قريب من المِؤلف بشكل أو آخر، فإن التاريخ يقترب من الذاكرة، إلى درجة يضطر معها المِؤرخ إلى مواجهة عنصر الذاكرة ويصعب عليه التأثر بها في بعض الحالات، وقد لا يعتني المِؤرخ بمفعول هذا التأثير. وبما أن تاريخ غير المحترفين يهتم أساسا بالزمن الحاضر والماضي القريب، فإنه يطابق مجال الذاكرة بشكل تام، ويرتبط بها على العموم، ولو أنه يتعارض معها في بعض الأحيان، حيث يوجهها بواسطة وثائق تتناقض معها أو تكشف عن ثغراتها.

إذا كانت ضرورة الإدلاء بالحجة تميز التاريخ عن العمل الأدبي والفني، فإن نوعية الحجج التي يتم الاعتماد عليها هي التي تحدد أحد أوجه الاختلاف بين التاريخ والذاكرة. فالتاريخ يعترف اليوم بمصداقية الحجج التي يتم الاعتماد عليها هي التي تحدد أحد أوجه الاختلاف بين التاريخ والذاكرة فالتاريخ يعترف اليوم بمصداقية الحجج التي تحيل على بقايا من الماضي، وهي شواهد تحدد هويتها، وتنسب إلى وسط محدد، وإلى زمن محدد، وبذلك تتحول هذه البقايا إلى مصادر يعتمد عليها لدراسة الوسط الذي أنتجها، وقد يدرس كذلك الفئات التي استعملتها على مر الزمن، أما حجج الذاكرة فهي من نوع آخر من قبيل "لقد كنت حاضرا، ورأيته بأم عيني"،أوقال لي "أعرفه أصدقه". إن الذاكرة تعتبر مثل هذه الصيغ بمثابة البراهين القاطعة التي لا يجوز تكذيبها فطالما كان التاريخ مجرد تدوين للذاكرة، فقد كان يكتفي بهذه الحجج ويمنحها كامل ثقته. لكن منذ القرن الخامس عشر تشكل التاريخ كحقل علمي، حيث أصبح يتعارض مع الذاكرة وطور أساليب عمله من اجل أن يتمكن المؤرخ من التعرف على وقائع لا يستطيع تذكرها بنفسه لأنها حدثت في زمن سابق، وقد تكون من الوقائع التي لم يدركها أحد في حينها وبالتالي فهي لم ترسب في ذاكرة أحد.

فالمعرفة التاريخية تعني عملية تنقيح للذاكرة أي أن تقدم التاريخ يوازي تراجع الذاكرة. كما أن المصدر الأول لمعلومات المؤِرخ هو الشهادة أولئك الذين حضروا الحدث…، وفي آن واحد تساهم الكتابة التاريخية بشكل أو بآخر في بناء الذاكرة الجماعية ومن اللافت كذلك أن الذاكرة أصبحت موضوع اهتمام المؤرخ الحديث فإلى جانب دراسة أحداث وبينات الماضي يتتبع المؤرخ عمليات التذكر والنسيان في مختلف الثقافات والمجتمعات هذا يعني وجود آليات وأطر اجتماعية وسياسية ومن المفيد هنا أن نستشهد ببعض الباحثين الذين ساهموا في التطوير النظري لهذا الموضوع ومن بينهم جاك كودي حول أهمية الأداة الشفوية أوالكتابية، وبول ريكور حول العلاقة بين الذاكرة والزمن والسرد وموريس هالفاكس حول الذاكرة الجماعية والأطر الاجتماعية للذاكرة. والمؤرخ مطالب بفهم الماضي في إطار اختلافه عن الحاضر لكنه يطرح في آن واحد على الماضي أسئلة تتأثر بقيم الحاضر ينبغي على المؤرخ أن يعترف بأن الذاكرة هي التي أتاحت امكانية الكتابة التاريخية حول الماضي القريب. وذلك لأنها أثارت تعدد المحكيات، وساهمت في تراجع مساحة الطابوهات والمحرمات.

من جهة أخرى شكل اشتغال "هيئة الإنصاف والمصالحة" من الوجهة العلمية انتاجا لأرشيفات مكتوبة و شفهية، انطلاقا من التحريات التي انكبت على أكثر من عشرين ألف ملف. غير أنه لا ينبغي أن يغيب عن ذهن المِؤرخ أنه بصدد ذاكرة تمت إثارتها في سياق معين تحدده رهانات معينة، كما أن الوثائق الإدارية ترتبط بدرجة التعاون الفعلي الذي أبدته أجهزة الدولة مع هيئة الانصاف والمصالحة.

وفي مستوى آخر، يمكن للمؤرخ أن يساهم في بناء منهجي لإ نتاج الذاكرة، كأن يضع شهادة الفرد في مختلف سياقتها التاريخية، أو يقوم بعملية "توضيب" بحيث يقوم التوفيق بين نسيج من المقتطفات المأخوذة من الشهادات وبين شبكة موضوعاتية لها صلة بإشكاليات محددة. ولا بأس من التذكير بأن الشهادة باعتبارها ذاكرة ليست فقط مجرد وسيلة تساعد على الوصول إلى المعلومة حول وقائع معينة، بل هي كذلك وثيقة تمكن من الاقتراب من الطريقة التي عاش بها الأفراد والمجموعات الفعل السياسي في مرحلة تاريخية محددة.

فترة الحماية في المغرب بين التاريخ والذاكرة

تعد دراسة تاريخ المغرب في فترة الحماية من المراحل التي لم تولى عناية أكبر من البحث التاريخي، ويفسر عزوف أغلب مؤرخي المغرب المعاصر عن دراسة فترة الحماية بالصعوبات التي تواجه دراستها. ومنها تلك المتعلقة بالوثائق والأرشيف، سواء المغربية أو الأجنبية. وإضافة إلى الصعوبات والعقبات المرتبطة بالوثائق والأرشيف، فإن أغلب المؤِرخين يعزفون لأسباب ابستيمولوجية أخرى، إذ هناك من يعتبر أن هذه المرحلة ليست بعيدة في الماضي بما يكفي، وتفتقد للرجوع إلى الماضي الكفيل بجعلها موضوعا للدراسة التاريخية.

هكذا، فبعد تركه من طرف المِؤرخين، أصبح تاريخ الحركة الوطنية يستعيده فاعلون تاريخيون وسياسيون وصحافيون. وبدأت المذكرات والشهادات والروايات التمجيدية تنتشر وتملأ الفراغ الذي تركه التاريخ الأكاديمي. ويعزى هذا العزوف من طرف المِؤرخين عن الكتابة عن فترة الحماية كذلك إلى عوامل مرتبطة بالسياسة والذاكرة و التطور التقني. وفي هذا الصدد فمن معيقات البحث تاريخ الحماية، حسب عبد الأحد سبتي "حساسية القضايا التي لا زال فاعلوها على قيد الحياة" ومما زاد من هذه التحديات والصعوبات المكانة التي أصبحت تحظى بها الذاكرة في استعادة الماضي لاسيما، القريب ولقد لاحظنا فيما سلف اهتمام الفاعل السياسي بالكتابة عن الماضي ومن هنا العودة المكثفة إلى ذاكرة فترتي الحماية والاستقلال. وقد اتخذت هذه العودة عدة أوجه من أبرزها كتابة المذكرات من طرف الفاعلين السياسيين في كلا المرحلتين.

يقف المتتبع لتجادبات الذاكرة و التاريخ في تاريخ المغرب حضور تناقض في إنتاج الذاكرة بين الفرقاء السياسيين فهناك فاعلون سياسيون ينتظرون تدخل المؤرخ حينما يتم الحديث عن وثائق ذات حساسية معينة ولا يعبرون عن نفس المطلب حينما تنتشر وثائق تدين ممارسات تيارات سياسية معادية، و هذا ما يعقد من مهمة المؤرخ بين الرغبة في توضيح ملابسات الماضي و بين هاجس حما ية صورة بعض الشخصيات وهو ما نلمسه من إقدام بعض الدراسات التاريخية على نشر بعض الو ثائق، بخصوص تاريخ الحركة الوطنية مما يوحي أن الحديث عن بعض أفعال الحركة الوطنية أصبح من الطابوهات والمحرمات، وهوما قد يضرب بعمق مفهوم الحياد القيمي الذي يتبناه المؤرخ، فكتابة الذاكرة هي التي اأاحت إمكانية الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، من خلال وجود عرض و طلب للتاريخ القريب، فالمؤرخ يساهم في بناء منهجي لإنتاج الذاكرة من خلال وضع الشهادة المحكية ضمن سياقات تأليفها ونفسانية منتجيها ومواقع أصحابها و يعمل على توضيب الشهادات التاريخية، بحيث يتم التوفيق بين نسيج من المقتطفات المأخودة من الشهادات.

خاتمة:

وخلاصة القول إذن أن الذاكرة والتاريخ يتفقان في حفظ الماضي والعناية به واستحضاره، ولكنهما يفترقان في كيفية حفضه وطريقة العناية به ووسائل استحضاره. وسبب ذلك أن الماضي لا وجود له إلا في أذهاننا، فلا نستحضره إلا بما يحملنا على ذلك من قضايا الساعة التي نحن فيها. فإن استحضرناه بالذاكرة فلم يخل ذلك من انفعال وحماسة وخيال. وإن نحن استحضرناه بالبحث التاريخي فإننا نرمي إلى اثبات الحقائق التي تنفي كل جدل. ولقد أحسن العالم الفرنسي تيودور مون و عندما قال "يقال إن التاريخ يساعدنا على فهم زماننا. ولعل الصحيح في الأمر هو أن يقال بأن زمننا هو الذي يساعدنا على فهم التاريخ"، علما أن الذاكرة هي المحرك والتاريخ هو الطريق السالك.


لائحة المصادر المراجع

  • جدل التاريخ والذاكرة في الاسطوغرافيا المغربية حفريات في الذات المغربية استاذ مولاي عبد الحكيم الزاو ي؛
  • محمد جادو ر "الذاكرة وبناء الخطاب التاريخ المغرب" ص - 213؛
  • عبد الأحد السبتي "التاريخ والذاكرة" أوراش في تاريخ المغرب ص - 213 - 214؛
  • بول ريكور "الذاكرة، التاريخ، النسيان ص - 256؛
  • إبراهيم بوطالب "الذاكرة والتاريخ" ص - 16؛
  • عبد العزيز الطاهري الذاكرة والتاريخ المغرب خلال الفترة الاستعمارية - 1912 - 1958 ص 117.

تعليقات